حمّور زيادة
تقترب العملية السياسية بين “قوى الانتقال” وبين المكون العسكري (الجيش والدعم السريع) من نهايتها. وحتى إذا لم توف الأطراف بالمواقيت التي أعلنها الناطق الرسمي للعملية السياسية، إلا أنها بلغت مرحلتها الختامية. ومع تراجع الحراك الجماهيري، وهي الحقيقة التي يتهرّب منها كثيرون، والعجز عن إسقاط المكون العسكري وإجباره على تسليم السلطة بلا قيد أو شرط، وخروج قادته من المشهد السياسي والعسكري، لم يتبقّ واقعياً إلا هذه العملية السياسية على علاتها. فهي ما نملك اليوم حتى لحظة الانقلاب القادم، الذي قد يقع بعد أسابيع أو بعد عام. لكنه بلا شك سيحدث. ليس فقط بسبب التهديد الذي أطلقه الفريق أول عبد الفتاح البرهان في منتصف مارس الجاري: “إذا انحرفت الحكومة القادمة فالجيش موجود”، ولكن لأن قيادة الجيش لها تاريخ قريب مكرر في خيانة الاتفاقيات وعرقلتها والانقلاب عليها. وهي كالعادة تذهب للاتفاق الحالي مكرهة، ومقودة بضغوط خارجية، ونصائح حلفاء، لكسب مزيد من الوقت لتعزيز نفوذها وإضعاف التحالفات الحزبية وتأييدها الخارجي، بعد نجاح عملية إنهاك الشارع.
فإن كان الانقلاب قادماً لا محالة، فربما كان من الجيد توجيه بعض النصح لقوى إعلان الحرية والتغيير، ومن معها من قادمين جدد أطلقت عليهم اسم “قوى الانتقال”. وهذا النصح ليس لأستاذية أو زيادة معرفة من الكاتب، فأنا لم أمارس أي عمل سياسي منظم في حياتي، وأتمنى ألا أفعل. لكنها نصائح من مواطن سوداني له حقوق في هذا البلد، ويظن أن له بعض المعرفة بتاريخ السودان السياسي، وبعض إلمام بقضايا الانتقال والديموقراطيات في العالم.
يراهن خطاب قيادات الحرية والتغيير على شخصية رئيس الوزراء القادم، مع وضع الكثير من الصلاحيات في يده. وهو ما يبدو كرد فعل على تجربة حكم د. عبد الله حمدوك، الذي رغم كل كفاءته لم يكن رجلاً مصادماً، وشديد التردد في وضع استقطابي حاد ومواجهة مع السلطة العسكرية.
ومع تفهّم ذلك، إلا أن التعامل بمنطق “تروما حمدوك” ليس أمراً حميداً. فمهما كانت الشخصية التي سيقع عليها الاختيار، إلا أن الرهان على رجل واحد لهو أمر بالغ الخطورة. إن التحول الديموقراطي أكبر من أن يوضع في يد رجل واحد مهما بلغت الثقة به؛ كما إنه من المعيب أن نسعى لتأسيس حكم ديموقراطي بالرهان على سلطة رجل واحد. هذا أمر مناقض لجوهر العملية الديموقراطية نفسها؛ لذلك ربما من الضرروي تعزيز حكم رئيس الوزراء الانتقالي بالآتي:
1-المجلس التشريعي:
تباطأت الحرية والتغيير في المرحلة الانتقالية الأولى في تكوين المجلس التشريعي، مرات لخلافات داخلية، ومرات لضغوط حركات سلام جوبا. وهي خطيئة أدت لتركيز السلطة التشريعية في يد قلة، مهما بلغ إخلاصها، لكنها أدت لاستبعاد عملية المشاركة الواسعة في التشريع. وظلت السلطة لنحو عامين متمثلة في مجموعة لا تتجاوز العشرين فرداً، مما جعل الانقلاب عليها هيناً. يجب على الحرية والتغيير حسم تعيينات المجلس التشريعي الانتقالي بأعجل وقت. بل لعل هذا أهم من شخصية رئيس الوزراء السوبر مان الذي ستوكل إليه قيادة الانتقال.
2-المحليات:
احتكار السلطة في يد المجلس المركزي للحرية والتغيير سابقاً لن يختلف كثيراً عن احتكارها في مجموعة “قوى الانتقال” في هذه المرحلة. ولن تجد أي سلطة انتقالية دعماً شعبياً ما لم يتم إشراك المواطنين في السلطة. وإذا كانت المرحلة الانتقالية بطبيعتها لا تناسب قيام انتخابات برلمانية، إلا أنه من الضروري أن تتعجل الحرية والتغيير بإنجاز انتخابات المحليات. فبهذا وحده تكون الانتقالية قد خطت الخطوة الأولى في تمليك السلطة للشعب. ولعل أهمية المحليات تجعل من الضروري أن تقوم السلطة السيادية الجديدة بإصدار المراسيم الدستورية العاجلة لتنظيم الحكم المحلي وقيام انتخاباته في أول أسابيع الحكم الانتقالي. وسيكون ذلك أيضاً تمريناً جيداً على انتخابات نهاية الفترة الانتقالية. وفي تقديري أن الإسراع بإعلان قوانين الحكم المحلي تحتمل أن يتم استدعاء قوانين سابقة، أو حتى إصدار قوانين عاجلة ولو بها أخطاء يمكن معالجتها لاحقاً عبر البرلمان. لكن المهم والعاجل أن تقوم انتخابات المحليات، وبسرعة.
3-النقابات:
خلال الفترة الانتقالية الأولى انشغلت الحرية والتغيير بالسلطة التنفيذية فلم تدعم عملية إنشاء النقابات المستقلة. ولعل الفائدة الوحيدة التي جنتها الحركة الجماهيرية من انقلاب 25 أكتوبر هي إتاحة الوقت لجموع المهنيين والفئوين للبدء في تكوين نقاباتهم. لذلك على السلطة الانتقالية القادمة العمل بأعجل ما يمكن على تعزيز النقابات، والدفع لتكوين ما لم يتم منها بعد. وليتها تتحلى بالمسؤولية الوطنية الكافية لتدرك أن من أهم شروط النقابات هي استقلاليتها وتعبيرها عن قواعدها المهنية ومصالحهم، وليس المصالح الحزبية. وهذا أمر يضع قادة الانتقال أمام المسؤولية التاريخية، بأن يدعموا قيام نقابات قد تعاديهم ولا تعينهم.
4-إخلاء المدن من الجيوش والمظاهر المسلحة:
لن تنجح أي عملية ديموقراطية في جو عسكري، تتجول فيه سيارات الدفع الرباعي داخل المدن بالمدافع، وتحتشد شوارعها بالمسلحين، سواء من الجيش أو الدعم السريع أو الحركات. فعلى السلطة الانتقالية العمل على إخلاء المدن من الجيوش، وتعزيز انتشار الشرطة كجهاز أمني مدني يعمل على حفظ الأمن، مع تدريب كافٍ وتسليح مناسب، ثم تعمل بعد ذلك وفق جداولها على عملية الإدماج والهيكلة.
بالتأكيد هناك نصائح أخرى مثل المفوضيات، والإصلاح الأمني العاجل، وتفكيك التمكين، بعملية أوسع وأعمق من التجربة الماضية وغيرها، لكنها كلها نصائح سبق أن قُدمت في المرحلة الانتقالية الأولى، ولم تجد من يستمع.
لكن لعل في هذه النصائح المختصرة، إن نُفذت عاجلاً ما يعيق قيادة المكون العسكري، الذي تحلم قوى الانتقال أن تلتزم بالاتفاق هذه المرة، وتكون تحت سلطة رئيس الوزراء المدني، لعلها تعيق قليلاً بيانه الأول لاستلام السلطة، أو تكون القاعدة التي يمكن بها مواجهة الانقلاب القادم عند حدوثه.