رأي

مزيد من الإنكار ولا شيء غير الإنكار

حمّور زيادة

في 11 مارس الجاري أصدر الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية بياناً جاء في ديباجته:
“ظلت قواتكم المسلحة منذ ما يقارب القرن من الزمان متلاحمة مع شعبها مناصرة لقضاياه حامية لأرضه وعرضه وسمائه وبحره، ومدافعة عن وحدته وأمنه.
تشكلت هذه القوات وتكونت، واستمدت قوتها وشرعيتها من صوت وهتاف الشعب السوداني “شعب  واحد جيش واحد”.

ورغم أن موضوع البيان هو الالتزام بمجريات العملية السياسية، والخروج من السلطة، إلا أن مقدمته تطرح الكثير من الأسئلة والشكوك. يقال إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وهذه الديباجة القصيرة توضح تصور القوات المسلحة للواقع السوداني السياسي، وتاريخه.

فحتى هذه اللحظة ورغم تصريحات متناثرة هنا وهناك من قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان عن انتهاء زمن الانقلابات العسكرية، إلا أن المؤسسة العسكرية لا تزال تمارس إنكار هذه الخطيئة؛ بل قادت صحيفة القوات المسلحة حملة باهتة تحمّل فيها الأحزاب السياسية مسؤولية الانقلابات والزج بالجيش في السياسة!

تتجاهل مقدمة البيان، كما تتجاهل المؤسسة العسكرية دوماً، حقيقة أنها ظلت تفسد الحياة السياسية السودانية منذ العام 1958م، عندما أقدم الفريق إبراهيم عبود على استلام السلطة. وهي جريمة حتى لو تحمّل شطرها القيادي بحزب الأمة الأميرالالي عبد الله خليل (العسكري أيضاً)؛ فهي لا تعفي قيادة الجيش من المسؤولية. فكل القوانين الدولية لا تعفي الجندي الذي ينفذ تعليمات مخالفة للقانون. ومنذ محاكمات نورمبرغ في 1945م، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يعد الجنود محميين من العقوبة بحجة “طاعة التعليمات”.

سلسلة طويلة من الحكم العسكري المتواصل خضع لها السودان بحكومات انقلابية. ولم يكد التاريخ يحفظ حادثة تمرّد عسكري ضد أي ضابط دخل إلى وحدة عسكرية وقادها لإسقاط الحكم الديموقراطي. بل على العكس، كانت التنظيمات الحزبية داخل المؤسسة العسكرية حين تعمد الى الانقلاب تخفي انتماءها الحزبي وتزعم أنها “تحرك عسكري غير حزبي” لتضمن ولاء الجيش. فالمؤسسة العسكرية مريضة بمرض مزمن يدفعها للانقلاب على الحكم المدني. وما ثرثرات الرئيس المخلوع المشير عمر البشير في إحدى مؤتمرات الحركة الإسلامية التي أذاعتها قناة العربية ببعيدة. عندما حكى عن الضابط الذي أيقظوه من النوم ليبلغوه أنهم ينفذون انقلاباً فهب مستبشراً وقال “أنا معكم”. بل إن المرة الوحيدة التي تمرد فيها الجيش ضد انقلاب كانت في 1971م، عندما تعجل الحزب الشيوعي بإعلان مسؤوليته عن انقلاب هاشم العطا. هنا انتفض الجيش رفضاً للانقلاب الشيوعي، وأعاد الانقلابي العسكري نميري إلى السلطة.

وحتى لحظة كتابة هذه السطور، فإن الأكاديمية العسكرية السودانية تحمل اسم الرئيس المخلوع المشير جعفر نميري، الذي سقط مثل البشير بثورة شعبية. وفي فبراير الماضي نشرت صحيفة القوات المسلحة موضوعاً عن المخلوع نميري ووصفته بـ “الجندي والضابط الأصيل الوطني الغيور الذي لا يخشى في الحق لومة لائم”.

لا يمكن أن تتجاهل المؤسسة العسكرية أن واقعنا الرد الذي نعيشه اليوم هي السبب الأول فيه. فلقد كنا حتى مساء 16 نوفمبر 1958 واحدة من الدول القليلة الديموقراطية في المنطقة. وكانت تلك أول تجربة حكم مدني للسودان. بها من الأخطاء والسوء ما يصاحب كل تجربة ناشئة. ولو أن تلك التجربة استمرت لأمكننا اليوم بعد أكثر من نصف قرن أن نكون دولة ديموقراطية حقيقية، بها من الحريات والعدالة ما يوفر لمواطنها حياة كريمة؛ لكن الجيش كان دوماً بالمرصاد، في 1958، وفي 1969، وفي 1989، ثم في ما بعد 11 أبريل 2019.

لا يمكن أن يخرج الجيش من السلطة وينتهي عهد الانقلابات إلا باعتراف واضح وصريح بهذه الجرائم، وباعتذار عنها. بدلاً من تكرار الإنكار، ومحاولة رسم صورة غير حقيقية تتحدث عن “تلاحم القوات المسلحة مع شعبها، وحمايتها له، ومناصرة قضاياه”.
الاعتراف هو أولى الخطوات. والاعتذار هو ثانيها. وتغيير العقيدة العسكرية التي تعتبر السلطة غنيمة حرب أمر ضروري. بدلاً من أن نشاهد الناطق السابق باسم القوات المسلحة وهو يهرطق في القنوات متحدثاً عن “الدستور العالمي الذي يعطي الجيش حق الاستيلاء على السلطة إن كان الوطن في خطر”. وهي خزعبلات زعم الناطق السابق انه يدرسها للطلاب العسكريين.
اعترفوا بخطاياكم أولاً، وبعدها حدثونا عن نيتكم انهاء عهود الانقلابات، فلا يمكن أن يتوب مجرم عن جرم يتفاخر به، ويباهي بقادته السابقين الذين ارتكبوه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى