خلال العام الذي أعقب الغزو الشامل الذي شنته روسيا على أوكرانيا، شهدت الحرب تطورات لم يتوقعها سوى قلة قليلة من الخبراء. فقد كان المفهوم السائد يرى أن القوات الروسية سرعان ما ستُسيطر على نظيرتها الأوكرانية التي تتفوق عليها، وتستولي على مساحة أكبر بكثير من تلك التي حصلت عليها في عام 2014. وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، حيث توقعوا أن تُسقط روسيا الحكومة في “كييف” وتستبدلها بنظام دمية من شأنه أن يصادق على السيطرة الروسية، ويزيل النظام الذي يشبه نظيره في الغرب والذي يجسد بديلًا عن الكيان الكئيب الذي تمثله روسيا في ظل “فلاديمير بوتين”.
وبالنظر إلى هذه التوقعات الخطيرة، كان الكثيرون في الغرب وأوكرانيا سيقبلون طوعاً السيناريو الحالي، أي أوكرانيا ذات سيادة وتمارس سلطة على 80 في المائة تقريبا من أراضيها. وهذا الواقع هو إشادة بفعالية الجيش الأوكراني، والشجاعة الجماعية للشعب الأوكراني وقادته، وصمود الدعم الأمريكي والأوروبي الذي قُدم في شكل أسلحة، وأموال وتدريب، واستخبارات، وقبول ملايين اللاجئين. كما أنه اتهام مذهل للجيش الروسي.
ويواجه بوتين خيارات صعبة وهو يفكر في حرب اختيارية لم تجرِ أطوارها كما خُطط لها. فقراره بالغزو لم يكن غير عقلاني، بالنظر إلى افتراضاته بأن جيش أوكرانيا لن يضاهي جيشه، وأن أوروبا (خاصة ألمانيا) تعتمد على الغاز الروسي لدرجة تمنعها من الوقوف في وجهه، وأن الولايات المتحدة، بعد 6 يناير وما بعد أفغانستان، انقسمت وأصبحت تركز على شؤونها المحلية لدرجة لا تخولها الدفاع عن أوكرانيا. ولكن نظرًا لثبوت عدم صواب كل هذه الافتراضات، فإن حسابات بوتين القائلة بأن فوائد الغزو ستقَزم التكاليف أصبحت صيغة تُفضي لكارثة.
وأصبح بوتين الآن يماطل. إذ نظرا لعدم قدرته على هزيمة الجيش الأوكراني، بدأ يشن هجمات على أهداف اقتصادية ومدنية على أمل كسر إرادة الأوكرانيين. وقد يعتقد أيضًا أنه، على الرغم مما يقوله القادة في الغرب، فهي مسألة وقت فقط قبل أن تعيد الحكومات الأوروبية، إلى جانب الولايات المتحدة، التفكير بشأن تكاليف دعم أوكرانيا.
إذاً، ما الذي ينذر به هذا في المستقبل؟ إن الحروب تنتهي إذا توفر شرط من الشرطين التاليين: عندما يهزم أحد الطرفين الآخر ويكون قادرًا على فرض شروط السلام الخاصة به، أو عندما يخلص الطرفان إلى أن التسوية أفضل من مواصلة الحرب، فلا يكون أي منهما قويًا بما يكفي للفوز.
ولا ينطبق أي من هذين الشرطين على هذه الحرب حتى الآن. ومن المؤكد أنه ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان بإمكان أوكرانيا طرد روسيا من أراضيها، حتى لو تخلت الحكومات الغربية عن موانعها وزودت أوكرانيا بأسلحة أكثر تقدمًا. فالقوات الروسية محصنة جيدا وسيكون من الصعب طردها. وهناك إمكانية، بل احتمال أن تقدم الصين مساعدات اقتصادية وعسكرية وفيرة لروسيا، حتى لا ترى شريكها الاستراتيجي مهزومًا على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بالقوات الروسية، فهي بكل ببساطة تلقت تدريبا سيئا وتعاني من ضعف القيادة مما يمنعها من هزيمة أوكرانيا في ساحة المعركة. ومهما بلغت وحشية الهجمات الجوية على المناطق المدنية وتكلفتها، فهي ليست بديلاً للنجاح في ساحة المعركة، ولم تؤد حتى الآن سوى إلى تشديد عزيمة الشعب الأوكراني.
ومع ذلك فإن آفاق التسوية قاتمة. إذ يبدو أن بوتين مصمم على البقاء على مساره خشية أن تدفع الهزيمة المتصورة في أوكرانيا جهود المنافسين المحليين لإزاحته من السلطة. وكان للعقوبات التي فُرضت عليه تأثير محدود فقط، حيث تواصل الهند والصين ودول أخرى شراء الطاقة الروسية. ويسيطر بوتين على الخطاب السياسي على المستوى المحلي، ليقنع من خلاله الكثيرين بأن روسيا ضحية، أجبرتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على القتال ضد الغرب برمته من أجل البقاء.
ولا ترغب أوكرانيا، أيضًا، في تقديم تنازلات. إذ يطالب جميع الأوكرانيين تقريبًا بالتحرير الكامل لأراضي بلادهم. والسبب مباشر: لقد غيرت الحرب طريقة تفكيرهم. إذ عززت البراعة العسكرية لأوكرانيا، وأوجه القصور الواضحة للجيش الروسي، قدرا لا يستهان به من التفاؤل الاستراتيجي بشأن ما قد يحمله المستقبل.
وفضلا عن ذلك، فقد أقست الحرب قلوب الناس. إذ أدت الفظائع الروسية، بما في ذلك قصف المباني السكنية وإعدام المدنيين، إلى دعوات للتعويضات وإنشاء محاكم جرائم الحرب. وقد يضيف البعض إلى هذه القائمة إبعاد بوتين ودائرته المقربة من السلطة، وهي نتيجة يرى الكثيرون أنها ضرورية إذا أرادت أوكرانيا أن تثق في أي تسوية سلمية.
وخلاصة القول، لازالت الظروف بعيدة كل البعد من أن تكون مناسبة لوضع حلول دبلوماسية. وسيتغير هذا في يوم من الأيام، لكن يبدو أن ذلك بعيد المنال اليوم. وما يبعث على السرور (إن وُجد) هو أن الحرب قد تصبح أقل حدة حيث يواجه كلا الجانبين صعوبة تحمل حجم الخسائر التي تكبداها العام الماضي. فهما ببساطة يفتقران إلى القوة البشرية، والمعدات، والموارد الاقتصادية اللازمة لتحملها.
ويبدو أيضًا أنه من غير المحتمل أن تختار روسيا التصعيد. إن شن هجوم على الناتو خطوة لا معنى لها عندما يبدو واضحا أن روسيا لا تستطيع حتى هزيمة أوكرانيا. ويبدو أن للأسلحة النووية قيمة عسكرية ضئيلة أو معدومة، وقد أوضحت كل من الصين والهند معارضتهما لاستخدامها. والأهم من ذلك أن استخدام روسيا للأسلحة النووية أيا كان نوعها من شأنه أن يدفع بالتأكيد قوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مباشرة إلى الحرب.
ومما يؤسف له أن الحرب لن تنتهي في وقت قريب. ومن المرجح ألا تشبه خريطة أوكرانيا بعد عام من الآن خريطتها الحالية بأي شكل من الأشكال. ومن المتوقع أن يكون العام المقبل سيئًا، وليس حاسمًا- وسيذكرنا بالحرب العالمية الأولى أكثر من الحرب العالمية الثانية.
إن كل ذلك ينضاف إلى ذكرى سنوية مهمة وواقعية. إن الحرب التي توقع قلة قليلة من الناس أن تستمر لفترة طويلة يمكن أن تحفز جولة أخرى من إحياء الذكرى والقراءات التحليلية بعد عام من الآن.