ثقافي

الطريق إلى ديسمبر البطولة: الجَمالثوري

ليس هناك ما يستحق الموت أكثر من الجمال

انتقال- حاتم الكناني
في كُلِّ لحظة من الثورة – والثورة لحظة أبدية – بكلِّ حقيقة يُرَدُّ كلُّ زيفٍ. الأفقُ واضح، وكلُّ كذبةٍ
تكشف الأثر إلى الطريق. في هذه اللحظة فعل الثورة، في ذاته، أفقٌ مفتوحٌ أكثر من مطالب الشارع
السياسية البعيدة أو القريبة. إذ يبدو بداهةً اتفاق السودانيين على الحرية والسلام والعدالة؛ لكنَّ لغةً
جديدةً تُعيد خلق الحياة السودانية، تُعيد ولادتنا من جديد في المكان. البسالة والحقيقة وضدهما
الرصاص والزّيف. خطابان يكشف كلٌّ منهما الآخر. فليس في يدِ الثوار غير كلمات، تنطوي على
الرغبة المفتوحة إلى ما لا نهاية. اللانهاية غاية الفن إلا أنها تصير لحظةَ الثورة الأبدية غايتَها. وليس
في يد الطاغية سوى ألوان السلاح والخطاب المفرط في نرجسيته المُتساقطة.
هذه الكتابة الاقتطافية التأملية – إن شيئ لي تسميتها بذلك – تُناور فضاء اللحظة التثويرية الذي اتَّسع
منذ التاسع عشر من ديسمبر، وحتى لحظة التفكير والتأمل المفتوح هذي، لذا فهي مشغولة بما هو ماثل
لا بما هو متوقع.
الجَمالثوري
ليس هناك ما يستحق الموت أكثر من الجمال
خلّفت الثورات السودانية تراثاً جمالياً ثورياً متغلغلاً في الذاكرة الاجتماعية السودانية، فضلاً عن ما
ظلَّت تُنتجه أدبيات المقاومة لدى شعراء الشعب، خليل فرح، محجوب شريف، هاشم صديق، عمر
الطيب الدوش، ومحمد الحسن سالم حميد، وأزهري محمد علي. ظل هذا التراث الشعري الثوري
يشحذ وجدان أجيال من السودانيين، لثورة ليست غايتها إسقاطُ الطغاة فحسب، بل النهوض بالحياة
جميعاً.
تَكتُبُ عن هذا الخطاب الجمالي المُلتحم بالثورة نجلاء عثمان التوم على حائطها على فيسبوك: "معظم
الهتافات المسيطرة في الشارع الآن مصدرها أشعار المقاومة. هذا الاصطفاء ليس عفوياً، وليس
مصادفة مجانية، الفن مرجعية متجذرة في وعي المقاومة السودانية". وبالطبع، فإن هذا الرصيد
الملحمي راكزٌ في الذاكرة الغنائية لمعظم جيل الغناء الحديث.
ثم؛ لا شكَّ أن الشعلة الثورية ظلَّت موقدة منذ اندلاع الثورة المهدية مروراً بثورة 24 حتى الثورتين
الديمقراطيتين أكتوبر وأبريل. وأخذت المقاومة الثقافية جزءاً غير يسير من رصيد المقاومة
للاستعمار والاستبداد الوطني بعده. وهي مقاومة فسيحة ولا تحتفي دوماً بالمواجهة، فتَخفُتُ تحت
الرماد حيناً من الدهر، وتعتمل ثورة شاملةٌ أخرى على صعيد الفن. ففي الشعر مثلاً يمكن اعتبار
شعريات محمد سعيد العباسي والناصر قريب الله، محمد المهدي المجذوب والنور عثمان أبكر وعلي
عبد القيوم ومحمد عبد الحي وعبد الرحيم أبو ذكرى وعبد الله شابو ومحيي الدين فارس والفيتوري،

رغم تباين وانفراد كل تجربة؛ يمكن اعتبارها منصبة في اعتمالات الفعل الثوري الذي يبدو حيناً
خافتاً؛ لكنه كان ضرورياً لمعرفة السودانيين بذواتهم واختلاجها وتراكم معرفتهم الجمالية؛ ها نشهد
قصائد من عيون الشعر السوداني تتصدر بيانات تجمع المهنيين، في إلماحة إلى تغيّر لغة البيانات
السياسية. إضافة إلى ذلك، لم تكن شعريات الثمانينيات والتسعينيات وبدايات الألفية وسردياتها، بعيدة
عن الحلم باللحظة التي يندفق فيها الفعل الثوري.
في هذه اللحظة من الثورة؛ ثورةٌ بصرية تقودها الطليعة الثورية بالتصوير أثناء الفعالية الثورية،
وقبلها وبعدها؛ لا سيما أن الخبرة البصرية هي إحدى السمات المشتركة عند جيل الثورة الناشئ في
كنف الغلظة الإنقاذية تجاه الحياة والإبداع وكل خبرة جمالية؛ وهي المفارقة التي أسهم في صناعتها
عالم الصورة!
تصير كل صورة حدثاً أيقونياً ملهماً وذا دلالة؛ فاليومُ السودانيُّ أصبح منذوراً للثورة ولا شاغل عن
التسبيح باسمها كُلَّ لحظة: أغانٍ ثورية مشغولة وأخرى من صميم الحياة الشعبية، شعراء في
الطرقات، موسيقيون، فنانون، نجوم كرة القدم، طرْفاتٌ وسردياتٌ أُسطورية تُروى، زغاريد ملهمة،
مشاعر طليقة وأحداثٌ متسارعة وتعليقاتٌ من القريحة الحُرَّة.
تُعلّمنا الثورة أنها بمثل ما هي وعيٌ تراكمي، فهي فعلٌ ممتدٌّ في الزمان والمكان. هي حصيلة كاملة
وليست فعلاً متناهياً أو معزولاً.
من عُمق الحراك الثوري تُكتشف الالتحامات بين الفن والثورة؛ فالفن ثورة دائمة على النَّمط، على
التَّكريس، والتكلُّس. الفن ثورة دائمة على السلطة. هذا الخطاب "الجمالثوري" الذي يبدو نقطة ضوء
نَمَتْ في العتمة، أوقدتها آفاقُ فعل القراءة والمشاهدة، التي لا يُنكر متابعٌ للمجال الثقافي ازدهارها في
السنوات العشر الماضية رغم التعتيم المتعمد من قبل السلطة المبادة. ولا غرو أن فعالية مفروش مثلاً
– التي استمرت منذ مارس 2012م حتى أوقفتها السلطات في مارس 2015م – فتحت أفقاً تغييرياً
واسعاً في تشكيل ثورة ديسمبر.. ولنا أن نتخيل كيف أن ملفات ثقافية كـ"تخوم" أو "الممر"، أو ملف
صحيفة "السوداني" بإشراف الصادق الرضي، أو كراسة "إكسير"، عم سيف، مجموعة شوارعية،
كانت ثورات محمولة في الصدور والصحف وأضابير المجلات، حتى اندلاع جمالياتها بهذا الشكل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى